قضية الحراطين من الوضع السلطوي إلى سلطة الدولة
ظل المفهوم المعجمي للسلطة يتراوح بين فعل النصح وفعل الملك وفعل التصرف، وحتى أوسع تعريفات السلطة في قاموس لاروس يقدمها باعتبارها الحق والقدرة على التحكم، واتخاذ الأوامر واخضاع الاخرين، ثم يكمل التوضيح بمثال سلطة مدير المدرسة.
ويفصل لالاند بين pouvoir باعتبار السلطة قوة او نفوذ، فيما يعتبر autorité التفوق أو النفوذ الشخصي الذي يتم به التسليم والخضوع والاحترام لارادة الآخر وحكمه ومشاعره.
****
يبدو أن ما يغيب كثيرا في نقاشنا لواقع الحراك الاجتماعي والنضالي في موريتانيا بالذات، سواء كنا مجرد أصحاب رأي أو جزء بطريقة ما من الوضع القائم قديما ومخلفاته حاليا، هو عدم أو تجاهل فهم المجال الذي كانت تمارس فيه تلك المفاعيل الاجتماعية والسياق الذي كانت تتحرك فيه، اي فهم القوى المحايثة للمجال الذي مورست فيه تلك الافعال -التي تعد الاشنع على الاطلاق-، والناتجة ضرورة عن عن وضع سلطوي معين، حسب الفهم الفوكوي، الذي يرفض أن تكون السلطة نمطا من الإخضاع أو مجموعة المؤسسات التي تضمن خضوع الناس في إطار ما (دولة أو غير ذلك)، ثم يواصل مشيل فوكو رفضه اعتبار السلطة نظاما عاما من الهيمينة يمارسه عنصر أو مجموعة على عنصر أو مجموعة أخرى.
ان الوضع السلطوي حسب فوكو هو عملية توازنات وتبادل السيطرة والنزاع، ولا تكون هناك سلطة الا من خلال الدعم المتبادل بين موازين القوى في السياق السلطوي، باعتبارها تمثل سلسلة أو نظاما أو تضادا وبنية من التفاوتات والتناقضات المنزوية عن بعضها البعض، فالسلطة حسب فوكو هي الاستراتيجية التي تفعل بواسطتها موازين القوى فعلها، اي هي وضع صياغة القانون الضابط، والهيمنات الاجتماعية.
إن ما تمثله الحالة الموريتانية هو انها كانت متركزة على العمليات الإقصائية في بنية المجتمع العامة التي أنتجت الوضع السلطوي القائم، مما قوض من دور بعض المشاركين في المجال الذي تمارس فيه هذه السلطة، وقد كان القانون الذي يحكم النظام معززا بالفهم التديني للنص الديني مما حد من سلطة معظم المساهمين في المجال العام باعتبار جهودهم وأدوارهم موهوبة في خدمة مسعى اخروي وليس في فعل الإخضاع للمكون الشريك في الوضع السلطوي ذاته.
وهو قضى بشكل كبير على فرصة بعض شركاء الوضع السلطوي في التأثير والمساهمة في سلطة العرض والطلب في المجال السلطوي وابقى البعض في خانة التابع للآخرين بشكل تام، وهي الحالة التي يرفض مشيل فوكو اعتبارها طبيعية بوصف العبودية مجال تغيب فيه اي حرية اي انها نظام من الإكراه والاخضاع يغيب فيه اي مستوى من الحرية أو فرصة للحصول على مكانة ما في الوضع القائم.
هذا السياق الذي قام على الإكراه هو ما يجعل نضال الحراطين الى اليوم وحتى غيره من النضال التي قد تظهر لاحقا تأخذ وقتا طويلا لاقناع شركاء المجال السلطوي ان الوضع اصبح وضع تناقض وصراع حتى تتم اعادة صياغة للقانون العام الناظم للوضع الذي خلق هذا السياق السلطوي الذي يتقدم فيه البعض على البعض الآخر، بفواعل غير سلطوية على الاطلاق وانما أفعال اكراه بشكل مباشر وينظر إلى اخرين بصفة النبذ دون أن يكون هناك مبرر مباشر، وإن كان موجود فقد زال تاريخيا نظرا للتحولات السياسية والاجتماعية التي شهد (الفضاء العام) السياق الموريتاني.
في مقاربة الوضع السلطوي أو التقابلية الاجتماعية الثنائية يرى هيغل انه من المستحيل التفريق بين المجنون الذي يدعي انه الملك والملك الحقيقي نفسه مالم يكن هناك طرف ثالث (إنية موازية في الوجود والعينية) لتحسم الصراع، وهذه الانية الثالثة تغيب كليا في الوضع السلطوي في موريتانيا فمن الذي يستطيع الحسم ان هذا عبد وهذا سيد بشكل لا جدال فيه؟ وماهي المبررات التاريخية لذلك بمعنى الوضع السلطوي الذي انتج مثل هذه الممارسة؟؟
والإنيّة الثالثة بهذا المعنى التي ينتظر أن تكون الدولة مازالت بعيدة جدا عن القيام بدور التحكيم والحسم في سياق سلطتها كدولة تتحكم في القائم حاليا وتعد المرجع الأساس لكل السلطات سواء الفردية أو الجماعية، كما أن مسؤولية الدولة أن تكون الجهة التي تقيم التاريخ وتحكم عليه، بل وتقدمه للنقد حتى يكون تاريخا جامعا للوضع الذي نسعى للوصول إليه وهو وضع الامة اي (توحيد السردية التاريخية، وفرض توازن النظرة الاجتماعية والثقافية لكل المكونات... الخ من مقومات الأمة).
إن قيام وضع سلطوي اساسه الحراك، الصراع احيانا والاتفاق احيانا أخرى هو ما يجعل الجميع في حالة رضى بل ويجبرهم على التفسير الواقعي للوضع القائم باعتبارهم مساهمين في الضمير الجمعي ومن الذين ساهموا في صياغة القانون العام.
وهذا بالذات ما يجعل من المهم للدولة باعتبارها طرفا محايثا للجميع ان تكون جهة التحكيم التي يثق فيها الكل ويرضى عنها الكل ويتصور الكل فيها نفسه، مقابل عناصر الصراع، على "المكانة والمصالح والفرص"، في حين على المحكم الحرص على ترشيد هذا الصراع قدر المستطاع حسب مداه و طبيعة الصراع في الوضع السلطوي.
#تبصير_سياسي
تعليقات
إرسال تعليق