قضية الحراطين بين النضال و منزلقات الضلال



أسالت مجموعة الحراطين في موريتانيا الكثير من الحبر على مستويات عدة خاصة في يتعلق بمخلفات الرق و انعكاساته على هذا المكون المجتمعي المحوري في التركيبة الاجتماعية بموريتانيا ، و مع قيام الدولة الحديثة بإصدار عدة تعميمات و قوانين و فتاوى حرمت مسألة العبودية ، فان الشكل الذي جاءت فيه هذه التحريمات تطرح من الأسئلة و الاستشكالات أكثر مما تقدم من الإجابات ، في ظل سعي تحرري دب في جسم الشريحة بكاملها (في حالة وعي بذاتها على لغة كارل ماركس ) . وقد تكون بعض الأسئلة الاستفزازية من الضروري أن تطرح دون أن يعني ذلك تقديم إجابات لها ضرورة ، فهل يعيش كل الحراطين (العبيد سابقا) نفس الوضع و لديهم نفس الخلفية أو على الأقل خلفيات متشابهة ؟؟ و ما مدى صدقية وجود نسق ثقافي يجعل هذه المجموعة تتسم بصفات مشتركة ليطلق عليها نفس الحكم و تعمم عليها نفس الوضعية ؟ أي دلالة لحجم الاختلاف الثقافي داخل شريحة –إن لم نقل شرائح -  الحراطين أنفسهم ؟ أي فاعلية لنضالهم قديمه جديده ما لم ينجح في توحيد الغالبية حول مشروع واحد ؟ (هذا المشروع الذي مازال غائبا أيضا هو الآخر ) و أي دور للنخب في هذا النضال؟
تجاوزت المسألة التشميت لعطاس تكرر كثيرا في السنوات الأخيرة و بات مطية شهرة للبعض و عذاب للبعض الأخر ، ففي ما يتعلق بالحراطين كمجموعة عرقية فان مخلفات الرق بالرغم من ضعف عمل الدولة على حل المسألة بشكل جذري ، قد انتهى عمرها المنطقي ، وركوب موجة المخلفات بات عملية متجاوزة إلى حد كبير ، فحالات العبودية المسجلة لا تقارب مهما تفاءلنا عشرة في المئة من نسبة الشريحة في المجتمع ، و هو ما يجعل عملية لبس عباءة المخلفات فيه الكثير من الردم على المشكل الحقيقي ، الذي يعانيه المجتمع بشكل عام ، و هو ضعف التعاطي الرسمي مع قضايا كالتعليم  و الصحة و الإسكان و توزيع الثروة ... الخ من أساسيات بناء دولة المواطنة ، و مع ذلك لا يمكن تجاهل أن ثمة نخبة من الحراطين استطاعت الوصول إلى بناء رأسمال و تجاوز هذه المخلفات في وقت لم تجد غالبية الشريحة أي طريق للتنمية ، و هو ما يحيلنا إلى السؤال حول الفوارق السوسيواقتصادية في الشريحة السوداء الناطقة بالحسانية ، التي تبد أكثر تلاؤما ثقافيا على الأقل في محيطها الثقافي الذي توجد فيه ، فلعب الدبوس كتقليد خاص بالحراطين أكثر تجذرا في غرب البلاد منه في شرقها ، ونفس الشيء على ما يعرف ب(الخالفة الخظرة ) ، فغياب هذين العنصرين و غيرها كثير عن نفس المجموعة في مناطق شرق البلاد ، يدفع بالسؤال إلى أعمق مما هو ظاهر فما مدى شرعية العبودية كفعل مرفوض دينيا ؟-حسب بعض الفتاوى الحديثة- و من الذي كان له الحق في التقرير من هو العبد والسيد ؟ ، و مع ذلك يمكن الوقوف على تقاطعات مهمة تشمل جميع مكونات الشريحة كالمديح النبوي – الذي لم يأخذ حقه في تدوين المقدس إذا ما قورن بمتون أخرى – و الذي إن كان عنصرا جامعا فقد تمايز في طرق الإنشاد حتى بات معروف كل لحن على حدة وما هي الجهة التي قدم منها .
يبد الإشكال الجينالوجي في الحراطين لكثر تعقيدا من سابقه ، فيحاول البعض التأصيل للحراطين كمجموعة و عرق ممتد ، فيرد البعض الحراطين إلى المصطلح الأمازيغي [إيحراطن] و الذي يعني الخلساء أو المولدون من بين الأحباش و البربر ، و يعتمد البعض الآخر مرجع [الحراثين] و هي كلمة تطلق على ممارسي الزراعة في المغرب و الثاء أبدل طاء بسبب النطق ، و بالتالي الحديث عن امتداد مجالي للشريحة . فيما يبد ثمة رأي آخر و خاصة في الجنوب يؤصل للشريحة على أنها من أصل زنجي و هي متشكلة نتيجة الاتجار بالبشر بين تجار الملح (البيظان) من الشمال و تجار الحبوب من الجنوب (السواد الإفريقي) ،و بالتالي هم يتكلمون الحسانية بالتعود و ليس بالأصل .
و دونما نسيان للتقسيم الوظيفي الذي عرفه مجتمع هذا المجال (أعرب ، امعلمين ، إيقاون ، أزواية ، حراطين ...) فان هذا الترتيب الوظيفي تحول مع الوقت إلى تقسيم اجتماعي و أدوار تحولت مع الوقت إلى هوية ، و لم تعمل الدولة على تخطيه بشكل فعال و هو ما تجسد في شكل مطالب نزلت مع الوقت شيئا فشيئا إلى الشارع . النزول إلى الشارع الذي يتطلب شعارات أكثر سهولة جعل كلمات [حر طاري] (الشخص الذي حصل على حريته حديثا) و جامبور (الخارج على العبودية ) كلها شعارات ضرورية لعملية الحشد للميدان لتغيير واقع الحراطين في حالة اعتماد ظاهرة على التغير من الخارج و ليس من الداخل. 
إن مسالة الجمع بين مجتمع الحراطين كشريحة عانت من ظروف متشابهة هي عملية لها الكثير من المنطقية من خلال وجود الكثير من المعلومات حول هجرة غالبية سكان ، كما أن فعل العبودية (المشين ) الذي عانى منه مكون في هذا المجتمع يجعل من هؤلاء ملاك للأرض أكثر من غيرهم ، و إن كانت عوامل تفتيت الرؤى السابقة كلها تعيد مركز الأزمة و هي البنية القبلية في موريتانيا التي تتأسس على أسطورة جينالوجية يستحيل الوقوف عليها ، خاصة إذا عرفنا أن القبيلة الواحدة تضم مختلف الشرائح الوطنية و من المضحك القول أن جميع هؤلاء يتوقفون عند الجد الثاني عشر نفسه .
بعيدا عن الجدل التاريخي الذي يتحكم فيه أموات بوصفهم من أتاحت لهم الظروف كتابة التاريخ ، فان الحكومات الموريتانية استطاعت دائما أن تؤجل الحديث الجاد حول ملف الحراطين ، إلا أن السنوات الأخيرة أفرزت حراكا أكثر أندفا و حسما  تمثل في بروز حركة إيرا التي كسرت العديد من الحواجز في سنوات ظهورها الأولى ،  حتى أصبحت بداية حقبة جدية كتجاوز لأدباي كرمز نضالي و تجمعات جامبور و حركة الحر لا حقا و أخوك الحرطاني و غيرها من الحركات التي لم تسعفها الظروف في أن تجد صداها المأمول ، فإيرا كانت محظوظة بشكل كبير بوجودها في زمن ثورة رقمية كبيرة خاصة في منصات التواصل الاجتماعي ، الجدل الذي أثاره الرئيس الموريتاني الثامن محمد ولد عبد العزيز حول حبس اثنين من ابرز وجوه النضال في قضية الحراطين بعد قضية الملكية العقارية ، و إطلاق سراحهما بعد أزيد من سنة - بتعليق سوء تقدير من المحكمة - ، نفس الرئيس دفع بيرام الرجل الصاعد وقتها في نضال شريحة الحراطين إلى أن يكون مرشحا رئاسيا ، خاصة بعد حادثة المحرقة التي كانت القشة التي قصمت ظهر البعير بين ماضي و حاضر نضال شريحة الحراطين.
مسألة نضال الحراطين الآن هي مسالة نخبة و مرهون بمدى قدرة النخبة على تجنب الضلال عن الطريق الذين تم التمهيد له منذ أدباي و ما لحقه ، فهذه النخبة التي يتبجح البعض منهم بالتضحيات التي قدموا لشريحة الحراطين مع انه لم يطلب منهم أحد التضحية فإنهم استطاعوا تحويل هذه التضحيات إلى رأسمال مادي ورمزي ، دون أن ينعكس ذلك على وضع الشريحة ضرورة ، هي النخبة نفسها التي اختارت اليوم مشاريع شتى من اجل خدمة ما يلخصه النشطاء الشباب بالقضية ، فهذه المشاريع المختلفة عدى عن صعوبة الأرضيات التي تقام عليها فإنها تبقى المحك الحقيقي لمدى جدية النضال في بسبيل تحقيق مبدأ المشاركة النشطة في الحياة الوطنية و الحصول على مكانة في طابور الحقوق لعشرات الآلاف من الحراطين الذين يزدادون نسيانا كلما زاد بريق بعض نخبهم ، و إن صح القول إن التحول إلى نخبة مسألة معقدة فالمشكلة التي تعاني منها نخب الحراطين تتفق مع ما قدمه ابن خلدون أن "المغلوب مولع بتقليد الغالب " فنخب الحراطين غالبا ما يتحلون إلى نخب على نمط النخب البيظانية أول ما يصلون إلى مركب القوة المالية و الاجتماعية و بعض السلطة ، ومع ذلك تبقى الطاقات الشابة في هذه الشريحة و المتحمسة جدا للوصول إلى حقوقها غير منقوصة و الآن العامل المهم في المرحلة القادمة ، مهما كانت طريقة كتابة التاريخ و حقيقة تشكل هذه الشريحة و فاعلية ادوار الدولة أو التزام النخب بقضية الحقوق حتى ولو ضرب ذلك بمصالحهم الشخصية حائط المصالح الذي تحدده الحكومات المتعاقبة في سبيل بقائها. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وقفة مع رواية الأستاذ الشيخ نوح "أدباي"

لقبيلة في تجليّاتها المُختلفة.......عبد الودود ولد الشيخ

سياسات التشغيل في موريتانيا و دورها في الحد من البطالة